Facebook RSS
الصفحة الرئيسة رسالتنا ارسل مقالاً اتصل بنا

الناس ثلاثة

قال علي بن أبي طالب (رض): النَّاسُ ثَلَاثَةٌ: فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ، وَمُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ، وَهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ، يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ، لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ، وَلَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ. فلنحدد أين نكون

الثورة الروحية في الإسلام..شذرات صوفية وإشراقات ندية

نشر بتاريخ: 2016-06-10

"التصوف في نظري أروع صفحة تتجلى فيها روحانية الإسلام، وتفسيراً عميقاً لهذا الدين فيه إشباع للعاطفة وتغذية للقلب، في مقابلة التفسير العقلي الجاف الذي وضعه المتكلمون والفلاسفة، كتبت هذه الصفحات لأبرز فيها بعض معالم الصورة التي يتلخص فيها موقف الصوفية من الدين والله والعالم..وسميت هذا الموقف "الثورة الروحية في الإسلام"، لأن التصوف كان انقلاباً عارماً على الأوضاع والمفاهيم الإسلامية كما حددها الفقهاء والمتكلمون والفلاسفة".

هكذا يكتب د.أبو العلا عفيفي في مقدمة كتابه "التصوف: الثورة الروحية في الإسلام" الصادر عن هيئة الكتاب، حيث يرى أن الحياة الروحية بلغت ذروتها في التصوف الذي كان نقطة التقى فيها المسلمون مع أصحاب الديانات الأخرى وأنه أول ثورة ضد الظلم السياسي والاقتصادي والاضطهاد فضلا عن الرغبة في الاستغناء عن ثراء كان ثمرة للفتوحات في صدر الإسلام.

ويقول أبو العلا عفيفي إن الزهد كان مدخلا لثورة المسلمين الروحية "على ذلك الثراء المفاجئ الذي أصابوه... قامت في نفوس أتقيائهم ثورة داخلية هي نزاع بين نفس لا تزال على إيمان غض قوي ودنيا مقبلة عليهم بشهواتها ومباهجها" فكان الخلاص برياضة النفس على المجاهدة والاستغناء عن الملذات.



ويرجح أن دعوة أبي ذر الغفاري وهو أحد صحابة النبي محمد "كانت صدى لهذه الثورة" على الأثرياء وفي مقدمتهم بنو أمية وخصوصا معاوية بن أبي سفيان حيث اشتهر أبو ذر بندائه "أين أموال المسلمين يا معاوية". ويلقب أبو ذر بأنه أول الاشتراكيين في الإسلام.

ويقول عفيفي إن أبا ذر المتوفى عام 32 من هجرة النبي محمد "قضى الشطر الأكبر من حياته في مناهضة بني أمية وأساليب حياتهم وحكمهم والسخط على أغنياء عصره داعيا إلى حياة اشتراكية عادلة في حدود الإسلام وتعاليمه."

ويرى أن التصوف الإسلامي هو وليد تاريخ الإسلام الديني والسياسي والعقلي وإنه كان ثورة على النظام السياسي الظالم والنظام الاجتماعي غير العادل في القرن الأول من صدر الإسلام حيث شهد "حوادث سياسية خطيرة مثل الحروب الأهلية الدامية الطويلة التي وقعت بين علي بن أبي طالب ومعاوية، والفتن والقلاقل في عهد عثمان بن عفان، وكبت للحرية الشخصية لم يسبق له مثيل" ومال البعض إلى العزلة والزهد نشدانا لراحة الضمير.



وأبو العلا عفيفي (1897-1966) كان الأول على دفعته في كلية دار العلوم فسافر في بعثة إلى بريطانيا لدراسة التربية ولكنه اتجه إلى دراسة الفلسفة في جامعة كمبريدج ونال درجتي الماجستير والدكتوراه في أعمال محيي الدين بن عربي الملقب بالشيخ الأكبر. ثم قام بتدريس مادتي المنطق والفلسفة بكلية الآداب بجامعة القاهرة.

ألا يملكك شئ!

يقول المؤلف إن التصوف الإسلامي في جوهره ظاهرة إنسانية ذات طابع روحي غير محدودة بزمان أو مكان أو جنس أو لغة وإنه يتجاوز الفلسفة لأنه حال أو تجربة روحية "استبطان منظم للتجربة الدينية ولنتائج هذه التجربة" في النفس. وللتصوف عشرات التعريفات منها "ألا تملك شيئا ولا يملكك شيء".
ويضيف أن أساس الطريق الصوفي وفلسفته تصفية النفس وتطهيرها من أدران البدن فاقترن الصوفي بالصفاء لأن الصوفي يتجاوز عالم الحس إلى الفناء في الهب وهي منزلة روحية يحصل للصوفي فيها ما يسمى "الإشراق".

ويسجل أن "أتقياء المسلمين لم يجدوا في فهم الفقهاء والمتكلمين للإسلام ما يشبع عاطفتهم الدينية فلجأوا إلى التصوف لإشباع هذه العاطفة، تلمس اليقين عن طريق الوجدان" فكان الزهد بداية الطريق الصوفي إلى المعراج الروحي.



ويرفض القول بأن الفناء الصوفي نوع من النرفانا الهندية لأن "النرفانا ظاهرة سلبية محضة وفكرة متفرعة عن مذهب تشاؤمي شامل".

ويقول إن الصوفية لم يشاركوا عامة المسلمين في نظرتهم للدنيا ومباهجها ولم يشاركوا علماء الفقه في نظرتهم للدين ولم يشاركوا الفلاسفة في نظرتهم إلى الهب والإنسان والوجود.

ويخلص إلى أن التصوف الإسلامي "جاء ثورة شاملة على هؤلاء جميعا. وكانت هذه الثورة أخص مظهر من مظاهره أو كانت المظهر الذي أعلن فيه الإسلام عن روحانيته الصادقة.

الحب الإلهي

يقول داود الطائي المتوفي عام 165 في وصية لرجل طلب منه أن يوصي: "صم عن الدنيا واجعل فطرك الموت، وفر من الناس كفرارك من السبع".

يقول الفضيل بن عياض: لو أن الدنيا بحذافيرها عرضت علي ولا أحاسب عليها لكنت أتقذرها كما يتقذر أحدكم الجيفة إذا مر بها أن تصيب ثوبه". في هذه الأفوال ما يشير إلى أن مفهوم التصوف عند هؤلاء الزهاد كان الزهد في الدنيا وتحقيرها والإقبال التام على العبادة.



يقول أبو الفيض ذو النون المصري عن المحبة الإلهية في أحد أدعيته:

"إلهي ما أصغى إليّ صوت حيوان ولا حفيف شجر ولا خرير ماء ولا ترنم طائر ولا دوي ريح ولا قعقعة رعد، إلا وجدتها شاهدة بوحدانيتك. دالة على أنه ليس كمثلك شئ وأنك غالب لا تغلب، وعالم لا تجهل وحليم لا تسفه وعدل لا تجور. إلهي فإني أعترف لك بما دل عليه صنعك، وشهد له فعلك. فهب لي اللهم وقار الطمأنينة وتطلب العزيمة إليك، لأن من لم يشبعه الولوع باسمك، ولم يروه من ظمئه ورود ذكرك، ولم ينسه جميع العلوم رضاه عنك ولم يقطعه عن الأنس بغيرك مكانه منك، كانت حياته ميتة، وميتته حسرة وسروره غصة وأنسه وحشة.

إلهي لا تترك بيني وبين أقصى مرادك حجاباً إلا هتكته ولا حاجزاً إلا رفعته ولا وعراً إلا سهلته ولا باباً إلا فتحته، حتى يقيم قلبي بين ضياء معرفتك وتذيقني طعم محبتك".

عمر بن الفارض

يوضح الكتاب، أن الشاعر أبا حفص عمر بن الفارض أحد أقطاب العاشقين الإلهيين وأعظم شاعر صوفي في اللغة العربية على الإطلاق امتاز بأنه جمع بين مزاجي التصوف والشعر، أثر ذك في تكوين شخصية عجيبة لا نجد لها نظيراً إلا في متصوفة شعراء الفرس من أمثال عبدالرحمن جامي وجلال الدين الرومي.

حيث لم يقف ابن الفارض عند حد التغني بأناشيد الحب الإلهي بل وصف لازماً من لوازم ذلك الحب وهو النشوة بالخمر الإلهية التي سكرت بها أرواح العاشقين، وتعد قصيدته "التائية الكبرى" التي تبلغ سبعمائة وواحد وستين بيتاً شعر صوفي خالص يسمو عن كل مادية أخطئ المستشرقين في تفسيرها.



وما حَلّ بي من مِحنَة، فهو مِنحَة، وقد سَلِمَتْ، من حَلّ عَقدٍ، عزيمتي
وكَلّ أذًى في الحبّ مِنكِ، إذا بَدا، جعلتُ لهُ شكري مكانَ شكيَّتي
نَعَمْ وتَباريحُ الصّبابَة، إنْ عَدَتْ على منَ النعماءِ في الحبِّ عدَّتِ
ومنكِ شقائي بلْ بلائي منة ٌ وفيكِ لباسُ البؤسِ أسبَغُ نِعمَة

الحب أصل العبادة

وفقاً للكتاب فإن نظرية ابن عربي في الحب الإلهي متفرعة عن مذهبه الفلسفي الصوفي العام، فهو يرى أن الوجود في حقيقته وجوهره شئ واحد، والحب عند ابن عربي هو أصل العبادة وسرها وجوهرها، إذ لا معبود إلا وهو محبوب، ولولا الحب ما عبد شئ من إنسان أو شجر أو كوكب أو صنم، لأن الشئ لا يعبد إلا بعد أن يخلع عليه العابد لباس التقديس، وهو لا يقدسه إلا بعد أن يحبه ويتفانى في حبه. والنتيجة التي يخلص إليها ابن عربي هي أن المحبوب على الإطلاق هو عينه المعبود على الإطلاق، لأنه هو الظاهر بصورة كل ما يحب وما يعبد وفي هذا يقول:

وحق الهوى إن الهوى سبب الهوى
ولولا الهوى في القلب ما عبد الهوى

حيث يقسم بقدسية الهوى "الحق" أن الهوى الساري في جميع مراتب الوجود، المعبود في جميع صوره هو علة الحب في جزئياته وأشكاله، وأنه لولا وجوده وتجليه في صور المعبودات وفي قلوب العابدين ما عبد معبود ولا وجد عابد.



فالهوى إذاً في نظر ابن عربي اسم من أسماء الله، هو الحب عينه وهو المحبوب بل ههو أعظم أسماء الله على الإطلاق.

الذكر وأحوال الإشراق

ليس الذكر الصوفي عملاً سلبياً، أو آلياً يقوم به اللسان عندما يردد اسم الله أوغيره من الأسماء الإلهية - كما يذكر الكتاب - وإلا لما كانت له تلك القوة الروحية التي تشير إليها الصوفية، بل هو عمل إيجابي تتجه فيه حيوية الذاكر نحو الاتصال بالمذكور ، هو الحضور التام مع الله، وعدم الغفلة عنه أو الانشغال بما سواه، بحيث يستولى المذكور على قلب الذاكر، ولذلك كان الذكر وسيلة لاستثارة حالة الوجد وحصول الإشراق.

فإن الذاكر لا يزال يردد اسم الله بلسانه، ثم بلسانه وقلبه معاً، ثم يعقد لسانه عن الذكر وينطق قلبه وحده به حتى يملأ ذكر الله كل جزء من أجزاء كيانه الروحي. وهنا تغلب عليه الحال ويفنى عن وجوده.

وهنا أيضاً يفتح الله عليه – على حد قول الغزالي – بما يفتح به على أنبيائه وأوليائه ويحصل له الإشراق الذي يأتي أحياناً في صورة البرق الذي يومض لحظة ثم يخبو، وأحياناً يدوم لحظات.



وهي حال تجل عن الوصف ويصحبها لذة هي أعظم ما قدر للإنسان أن يحظى به في هذه الحياة. يقول ذو النون المصري: "من ذكر الله على الحقيقة نسى في جنب ذكره كل شئ، وحفظ الله تعالى عليه كل شئ، وكان له عوضاً عن كل شئ".

ويروى عن الشبلي أنه كان ينشد في مجلسه:

ذكرتك لا أني نسيتك لمحة
وأيسر ما في الذكر ذكر لساني
وكدت بلا وجد أموت من الهوى
وهام عليّ القلب بالخفقان
قلما أراني الوجد أنك حاضري
شهدتك موجوداً بكل مكان
فخاطبت موجوداً بغير تكلم
ولاحظت معلوماً بغير عيان

أي أنه لما استولى عليه سلطان الوجد وأشهده أن الحق جليسه وحاضر معه، ولما فرغ فؤاده من كل شئ إلا من الله، شهد الله في كل شئ وفي كل مكان، وخاطبه بغير لسان، وعاينه بغير عيان.وهذا هو الفناء الصوفي.

ويرى المؤلف أن ما فهمه المتأخرون من أصحاب الطرق الصوفية من الذكر في الحلقات وما يصحبه من حركات الرقص التوقيعي على نغمات الموسيقى فليس من الذكر في شئ ولكنه ضرب من الدجل والشعوذة، وهو مظهر من مظاهر الانحلال في أوساط أدعياء التصوف الذين يتبرأ منهم الصوفية المخلصون، ولم يبتل التصوف بمثل ما ابتلى به على أيدي هؤلاء الجهلة الذين شوهوا جماله وأفسدو سمعته ومعناه.

محيط - سميرة سليمان
Developed by