نشر بتاريخ: 2020-07-17
استدعاء الشخص لمجموعة من الكلمات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية أثناء حديثه نوع من المباهاة والادعاء الثقافي المحموم الذي أصاب مجتمعاتنا التي تعاني من أزمات قاتلة.
حمى وهوس الدروس الخصوصيةحلم قد يتحقق إن توافرت النية الصادقة
هناك مزيد من المحاولات التي ستستمر كثيراً وطويلاً من جاب الحكومات الأميركية والإسرائيلية بخصوص تطوير وتعديل المناهج الدينية في الوطن العربي
الصورة الحالية للغة العربية رغم قتامتها، إلا أننا نأمل في غد أفضل
دون إصرار فحسب، بل ترصد أيضاً، هو حال المتربصين باللغة العربية وتعليمها في الوطن العربي ومصر على وجه التحديد، فلو تأملت معي السنوات العشر الأخيرة لأدركت على الفور حال اللغة ومصير أهلها المساكين. عناوين الشوارع ولافتات المتاجر والدكاكين العشوائية الضاربة في الانتشار بقدر انتشار الجائحة الكونية كورونا، وأحيانا المدارس التي صارت تحمل أسماء أجنبية وكأنها تقيم حصاراً قاسياً على لغة القرآن وأهلها.
فلك أن تسير منفرداً لا شريك لك في السير متجولا، أو وسط نفر من أصدقائك في أي شارع تختاره واكتب في ورقة صغيرة كل ما سوف تشاهده من أسماء الأماكن الكبيرة والمتوسطة والصغيرة الحجم والقيمة التي تمر عليها، ففندق اختار لنفسه اسماً أجنبياً من المحتمل أن يكون لزعيم شيوعي ملحد قديم، ومطعم بائس باللغة الفرنسية، ومتجر للملابس النسائية أصر أصحابه على تسميته باللغة الإيطالية.
حتى المتجر القديم الفقير ببضاعته الذي يبيع السجائر المحلية الصنع والبسكويت الرديء البعيد عن أعين الرقابة الغذائية ومنظمة الصحة العالمية، لم يسلم من سطوة نفوذ اللغات الأجنبية التي تجتاح حياتنا اللغوية فصار يغير عنوان دكانه إلى لفظ إنجليزي أعرف أنه لا يعلم معناه حتى لحظة الكتابة هذه.
أقول هذا في الوقت الذي صار فيه استدعاء الشخص لمجموعة من الكلمات الإنجليزية والفرنسية والإسبانية أثناء حديثه نوعاً من المباهاة والادعاء الثقافي المحموم الذي أصاب مجتمعاتنا التي تعاني من أزمات قاتلة أهمها فقر البحث العلمي والتقاعس الاضطراري من العلماء العرب وهم في مواجهة جائحة كورونا، واضطروا مستسلمين لإعلان فشلهم الأكاديمي والتطبيقي في المواجهة.
تأكيد الهوية العربية بلغتها الرصينة المتمايزة بمفرداتها وألفاظها وأساليبها وتراكيبها اللغوية، وتشكيل وعي وطني بالأحداث الجارية من خلال تدريب التلميذ على استشراف إحداثيات المستقبل مستخدمًا لغته العربية الأصيلة
وإذا أردت بشكل علمي أن تتعرف على حال اللغة القومية في الوطن العربي ـ العربية أقصد ـ عليك أن تذهب في رحلة مريرة قصيرة إلى أية مدرسة تتبع وزارات التربية والتعليم بأي بلد عربي والتي تفتخر بإيجاد تنظيمات تعليمية فريدة كالتعلم النشط والتقويم الشامل وملف الإنجاز وغيرها من المستحدثات التعليمية التي لم تضف جديداً إلى العملية التعليمية اللهم سوى الهم والحزن.
فإذا طلبت من أحد طلاب المرحلة الثانوية أن يقرأ لك نصاً شعرياً لأحمد شوقي أمير الشعراء مثلاً تراه يخبرك بألفاظ وكلمات لا تظنها أبداً أنها من ألفاظ وكلمات اللغة العربية. ورحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم حينما نعى اللغة العربية ، فلو كان بيننا الآن لنعى أهلها أيضاً.
وإن كنت من هواة المغامرة واستكشاف واستشراف المجهول الغيبي وغموض السبل، اطلب من تلميذ آخر أن يكتب لك مقالاً لا يتجاوز تسعة أسطر عن موقف العرب العلمي من جائحة كورونا مثلاً، فلا هو يعرف أن هناك ثمة إجراءات احترازية تتبع وهي ضرورية، ولن يخبرك بلغة ماتعة رصينة عن مسببات الفيروس ومدى انتشاره، أو حتى تسميته العلمية بـ (كوفيد ـ 19) ولا هو بقادر على صياغة فكرة جاهزة باللغة العربية السليمة.
والصورة الحالية للغة العربية رغم قتامتها، إلا أننا نأمل في غد أفضل، فالحاضر ليس كما تغنت به كوكب الشرق السيدة أم كلثوم بأنه أحلى، وهذا بالضرورة لا ولن يتحقق بتكريس الوضع الحالي للحياة اللغوية، فلا بد من تضافر جهود كثيرة مختلفة ومتقاربة ومتباينة، وتعاون حقيقي بين مؤسسات المجتمع المدني وبين مؤسسات التعليم الرسمية في الوطن العربي.
ولعل ذاكرتي لا تزال تحمل بين طياتها جلسة مجلس الشعب المصري منذ سنوات ليست بالبعيدة والتي كشفت عن محاولات السفير الإسرائيلي السابق شالوم كوهين للضغط على وزير التعليم السابق أيضاً الدكتور يسري الجمل والذي خرج من الوزارة بصورة استفزازية؛ لاعتماد اللغة العبرية كمادة دراسية في المدارس المصرية الخاصة والحكومية.
ودعم السفير الإسرائيلي وقتها كلامه بأن اعتماد العبرية كمادة دراسية سيؤدي إلى تضييق الفجوة بين وجهتي نظر أطفال الدولتين نحو الآخر مصر والكيان الصهيوني، بالإضافة إلى أنه حينما يدرس الطفل المصري اللغة العبرية ستمحى لديه آثار العداوة والبغضاء نحو نظيره الطفل الإسرائيلي.
وفي السياق نفسه، أشار أحمد جبيلي رئيس حزب الشعب الديموقراطي والمرشح لانتخابات رئاسة الجمهورية وقتئذ، بمناسبة أن مصر تكاد تتحول إلى عزبة صغيرة يتنافس عليها من يشاء ويرغب، عن هذه المحاولات المستمرة من جانب الحكومات الصهيونية والضغوط الأميركية الإسرائيلية لتدعيم تدريس اللغة العبرية في مدارسنا التي لا يجيد أبناؤها اللغة العربية القومية، أو حتى اللغة الإنجليزية التي أصبحت على لسان كل شعوب العالم، أما نحن فنجيد كلمتين منها هما: thank you وكلمة good luck التي نستخدمهما كثيراً بعد مباريات كرة القدم المحلية الصنع الباهتة أيضا في المهارة والأداء وحتى التشجيع الغاضب.
ومما لاشك فيه ان هناك مزيدا من المحاولات التي ستستمر كثيراً وطويلاً من جاب الحكومات الأميركية والإسرائيلية بخصوص تطوير وتعديل المناهج الدينية في الوطن العربي بزعم أنها تنشط وتدعم التطرف والإرهاب والعنف، وأنه لا سبيل عن ضرورة تدريس اللغة العبرية في مدارسنا العربية.
والقضية برمتها لا تقف عند حدود تدريس اللغات المختلفة فهو أمر ضروري وحتمي للتقدم والرقي كما كنا قبل سابق في الحضارة العباسية وما شهدته من تقدم وازدهار نتيجة للترجمة وتعرف لغات الشعوب الأخرى. إنما خطورة قضية تدريس اللغة العبرية في مدارسنا تكمن في أننا شعب مغرم بالتقليد، ويهوى استقطاب كل ما يتعلق بالآخر في حياته وممارساته اليومية، رغم تغليفها بطابعنا المصري ذي النكهة الخاصة.
PreviousNext
وهذا المشهد الأخير يدفعنا دفعا للإشارة ـ على عجل وتسارع ـ إلى التعليم الأجنبي بمدارس الوطن العربي، والمشكلة تتمثل في مظاهر قد تعد ثابتة، أبرزها تعليم اللغة القومية وهي اللغة العربية الفصيحة، وواقع تلك المدارس العولمية لا تتسع صدرا باللغة التي تشكل هوية أبنائنا وليت أولياء الأور اللاهثين يفطنون أن تعليم اللغة العربية يتم في ضوء نواتج تعلم تصدرها لنا جهات غير رسمية أو بالأحرى بمنأى عن مستشارين وزارة التربية والتعليم الذين يضعون الكتب واللوائح المنظمة والقواعد الحاكمة لاستخدام اللغة وظيفيا في مدارسنا، طبعا هذا لا يحدث أيضا في مدارسنا الحكومية لكن من باب التذكرة فقط.
ودولة الإمارات العربية المتحدة الشاهقة في ميادين التعليم يتصاعدون معرفيا ومهاريا هذه الآونة عن طريق الارتقاء باللغة القومية رغم أنها نموذجية في الأخذ بالتعليم الأجنبي وفقا لضوابط التعليم النظامي هناك، أما نحن فحالة الانبهار بألسنة أبنائنا المعجونة باللغات الأجنبية أصبحت عائقا منيعا أمام تشكل الهوية وتكوينها.
ولا بد أن ندرك الحقيقة التي لا يجدي الهروب منها أبدا وهي أن تقدمنا المعرفي مرهون باللغة والارتقاء بمناشط توظيفها فعليا، فأنا ربما أنتمي لعصر ما قبل الحجارة إذا قلت بأنه لا يمكن لتلميذ أن يتقدم ويرتقي بغير الاهتمام بلغة ثقافته الوطنية. ولا أنكر دور الأنشطة التعليمية والترفيهية التي تقدمها المدارس الأجنبية والخاصة في مصر والتي تتفوق فيها بإمكاناتها المادية على التعليم الحكومي الضيقة، وكذلك دعم الموهوبين وإقامة المعارض الموسمية، لكن أين موقع كل هذا من خارطة الوطن الوجدانية، وما مدى تفوق وموهبة الطلاب المنتسبين لتلك المدارس في مجتمعاتهم المحلية خارج قاعات الدرس. إن المشاركة والتلاحم بين هؤلاء الطلاب ومجتمعاتهم المحلية هو الذي يخلق بالضرورة حالة الانسجام والتوافق بل يسهم بصورة مباشرة في صناعة مستقبل شعب متناغم وخلاق.
فالمدرسة العربية بدلاً من أن تهتم بالصيحات التغريبية كالجودة والاعتماد وغيرهما مما لا يصلح لمجتمع مدرسي يعاني من نقص المعلمين والتغذية والمناهج وطرائق التدريس، عليها أن تهتم بجماعات الخطابة المدرسية، وأن تتبنى المواهب المختلفة للطلاب؛ تكتشفها ثم تصقلها بالقراءة والمعرفة، وهذا في ظل حمى وهوس الدروس الخصوصية غير المشروعة يعد خيالاً علمياً.
والإعلام الذي أراه في معظم البلدان العربية إعلاماً غربياً في موضوعاته وتقديماته وطرائق عرضه سيؤدي بنا في نهاية الأمر إلى هاوية سحيقة ستبتلع الغث والثمين، والسمين أيضاً.
إنني وغيري لسنا من المهتمين بقضية إعادة إعلاء شأن اللغة العربية لا سيما اللغة المدرسية والجامعية فحسب، بل من المهمومين بحالها ومصير أهلها، وإنه من العجيب والمدهش أن تطالعنا المؤتمرات العلمية الورقية بتوصيات مفادها تعريب العلوم وبخاصة الفيزيائية والطبية والهندسية، واللغة العربية الأم تعاني من مشكلات تضيق هذه المساحة بها.
فليتنا ونحن نهتم بعام الرياضة البدنية، وعام الفيديو كليب، ويوم الأغنية الشعبية، واحتفالية كرة الشاطئ وغيرها من المناسبات والموالد أن نخصص عاماً للغة العربية في هيئة إعلانات تليفزيونية كالضرائب مثلاً تحث الناس على استعمالها، وأن تهتم وزارات التربية والتعليم والتعليم العالي بالوطن العربي باللغة العربية على مستوى مستعمليها لا على مستوى الندوات والمؤتمرات التي تعج بالمسنين وأهل الشيخوخة. هو حلم قد يتحقق إن توافرت النية الصادقة.
والحق أقول: إن التنمية الوطنية تتحقق فقط بتعليم موحد يشكل العقل والوجدان الجمعي، ومن خلال برنامج تعليمي جديد يسمى بأي اسم أو يقدم تحت مظلة التربية الوطنية أو القومية أو القيم والأخلاق أو منهج مواز يركز على تأكيد الهوية العربية بلغتها الرصينة المتمايزة بمفرداتها وألفاظها وأساليبها وتراكيبها اللغوية، ويعمل على تشكيل وعي وطني بالأحداث الجارية من خلال تدريب التلميذ على استشراف إحداثيات المستقبل مستخدمًا لغته العربية الأصيلة.
بليغ حمدي إسماعيل