نشر بتاريخ: أمس
لم ترفع اللغة قوما مثلما رفعت العربية الناطقين بها، فكل اللغات علا شأنها بعلو شأن أهلها وارتبطت قوتها بقوتهم كما يقول ابن خلدون، وهناك لغات ورغم قوة أهلها لم يرتفع شأنها، أما العربية فهي قوية رفيعة الشأن حتى لو ضعف العرب، وتفرق شملهم وانتكست رايتهم فهي حصنهم الذي لا ينهزم ذلك لأنها حاملة قيم ومفاهيم هي الأقرب لفطرة الإنسان بما حوته من النبل، والكرم، ورفض الضيم،والفروسية، والأمانة، والعهد، وقوة الكلمة، والصدق، والإجارة، والنخوة وما فيها من انفتاح على العقل والقلب والروح ودقة وصف للأحوال والحالات وتمييز بين أقرب الأشياء وأدقها ومالها من قوة روحية في نفوس مستمعيها.. فكان العرب بها يتميزون وفيها يتسابقون ويفتخرون.. رافقتهم في ضعفهم فكانت مؤنسهم، وصحبتهم في علوهم فاتسعت لمعارفهم ولعلوم الآخرين ونشرت بركاتها على كل من تعلمها فأصبح بها يعرف وعنها يدافع.
العربية والقرآن:
اجتهد العرب لاسيما في القرون القليلة التي سبقت الإسلام على تنقيتها والتماس روحها والتنافس في ذلك فكان الاجتهاد في السباق بين الأدباء والشعراء طريق توحيد ألسنة العرب الاختياري حتى وصلت إلى ذروتها فرفعوا أجمل القصائد وأحكمها يعلقونها بأستار الكعبة في مشهد مهيب أمام كل الذين جاءوا للحج في سوق عكاظ وعبر عشرات السنين.. لتدخل اللغة في درجات القداسة العليا عند العرب، ويرجع من فاز باللقب إلى قومه بالمجد التليد فتخرج القبيلة كلها في انتظاره ترحيبا وتهليلا وهكذا توحد لسان العرب على مرجعية لسان قريش أي تمت تهيئة ثقافية عامة لأم القرى وما حولها أي الجزيرة والعراق والشام لاستقبال المعجزة..
وهنا جاء القران الكريم بلسان قريش بعد أن أصبح مرجعا للسان العرب فألقى معجزته البيانية وقد أكسبها علوما وفنونا تتكشف مع الأيام ونظمها وأعطى كل حرف فيها سره وجغرافيته وإيحاءاته ورتبها كما كل الحقائق الكونية الكبرى، كيف لا وهي ستظل حاملة معاني الوحي ومفاهيم الرسالة إلى آخر الزمان.. وكان قرآنا عربيا مبينا.
والسعة في اللغة إنما هي قدرة فائقة لها على الوصف والتعبير عن الحال والمراد بلا تشابه ولا انحراف فتكون بذلك الأمينة على نقل الأفكار والاحتياجات والانفعالات بدقة متناهية فاستحقت بذلك ان تكون لغة الإنسان، وفي هذا جاء القران الكريم المعجزة المتجددة يتحدى فصاحة الفصحاء وبلاغة البلغاء وألقت تحديها على طول الزمن بتجدد معاني آياتها فخضع لها أساطين الأدب ومن أجمل ما يقال هنا ان كبار الأدباء المسيحيين العرب يجدون عشقهم في القرآن ولغته ولهم في هذا باع طويل اذكر منهم جورج جرداق الأديب المتميز والأخطل الكبير والأخطل الصغير الشاعران البديعان، وسواهم كثير من الأدباء المسيحيين في بلاد الشام والعراق.. لقد كانت العربية بسعتها ودقة معانيها إناء القرآن الأمين الذي اتسع لأسراره وحافظ على معاني الوحي وكلماته ودلالاتها بلا تزيد ولا نقصان فاستحقت بذلك أن تكون لغة القرآن، فبحسب المصادر والمراجع ومعاجم اللغة العربية، يبلغ عدد الكلمات في اللغة العربية - سواء المستخدمة أو المهملة - 12.302.912 كلمة دون تكرار ويبلغ 25 ضعفًا عدد كلمات اللغة الإنجليزية التي تتكون من 600 ألف كلمة.. وإليكم عدد الكلمات في أبرز اللغات حول العالم: - اللغة العربية 12.3 مليون كلمة 2- اللغة الإنجليزية 600 ألف كلمة 3- اللغة الألمانية 160 ألف كلمة 4- الغة الفرنسية 150 ألف كلمة 5 - اللغة الروسية 130 ألف كلمة..
ولك أن تتيقن من خلال هذه الأرقام بتفرد اللغة العربية في استيعاب الوجود الإنساني بكل أبعاده الروحية والعقلية والنفسية فالحرص على التكلم بالعربية وإتقانها يرفع الهمة ويعلي القيمة ويزكي الروح و يقرب من مكارم الأخلاق ومن هنا يجد الإنسان مجالات انفتاحه على الكون بلا عقد ولا أزمات ولا أوهام.. وبهذا امتلكت العربية قوة الإقناع و الدليل القاطع والحجة الدامغة البينة وعدم التوهان في المتشابه من القول، وهو ما كان ضروريا ولازما لرسالة الإسلام المرسل للعالمين سعة لا ضيق معها ورحمة لا شقوة معها..
لغة حضارة:
دهش الاستعماريون الصليبيون بصعوبة تحقيق انتصار على العرب المسلمين فألقوا بذلك على مستشرقين متخصصين بالمنطقة العربية الذين توصلوا إلى إجابة: أن السبب هو تزود الطفل العربي مادون الثانية عشرة بكلمات تقريبا 52 ألف كلمة هي كلمات القرآن الكريم حسب منهج الكتاتيب.. وهذه المفردات تزود الطفل العربي بملكات عديدة تؤهله للمواجهة والتحدي المتفائل وبناء على ذلك قدم المستشرقون توصياتهم لقادة الحملات الاستعمارية بتدمير الكتاتيب وإنشاء مدارس معاصرة يتخرج الطالب بعد 12سنة بعدد من الكلمات لا ترقى الى ما يحتاجه في مواجهة تحديات الحياة.. وهكذا كان.
لم تكن اللغة العربية لغة قوم بعينهم، فهي لا تعرف بقوم إنما يعرف بها من ينطقها وهذا معنى حديث الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: العربية اللسان.. وفي هذا السياق نجد أنها وجدت قواعدها على أيدي علماء من شتى الأعراق، ونبغ فيها من لم يساكن أهلها يوما، ويورد المنصفون عن نهضة العرب المسلمين أنها استوعبت العلوم السابقة والمعارف الإنسانية وفتحت مخازن الأمم التراثية لترى النور وكانت اللغة العربية الوسيط الحضاري لهذه الثقافات نحو البشرية جمعاء.. وفي النهضة التي عاشتها الأمة قرونا طويلة كانت العربية فرسا مطواعة لكل فارس علم في الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء والرياضيات والفلسفة.
ومع أن العرب عندما انطلقوا بالرسالة لم يكن مشهورا عنهم التبحر في التخصصات العلمية إلا أن العربية بسطت لهم الأرض منساحة لكسب المعارف ولم تخذلهم بل كانت دوما تزودهم بالمصطلحات الدقيقة وبطريقتها المعجزة فلا تكرر ولا تميل لتركيب المصطلح وتعطي كل شيء اسما خاصا به يعبر عن حالته ومكانته.. فنقلتهم من مجد إلى سؤدد.. وتجددت مهماتها فكانت أمينة على لغة العلوم كما كانت أمينة على خلجات الصدور وحراك العقول ونبض القلوب.
وفي التجارب المعاصرة ورغم جفاف المرحلة و التهيب منها إلا أنها حملت العلوم كلها في بعض جامعات الوطن العربي لاسيما في سورية حيث حملت علوم الطب والهندسة بكل فروعها واثبت الطالب العربي بها نفسه وعندما التحق بالجامعات الأجنبية للتخصص كان من المبدعين وعلى ذلك عقب كثير من العقلاء الخبراء الدوليين بان تعلم الطالب بلغته الأم يجعله أكثر استيعابا لعلوم العصر..
لغة وحدة:
لقد كانت اللغة العربية على مدار القرون السابقة عنصر توحيد أساسي للأمة الإسلامية التي انبرى علماؤها من شتى الأعراق لتعلم العربية وإتقانها والتنافس في علومها حتى لكأنا في كثير الأحيان لا نستطيع معرفة من أي الأعراق هؤلاء العلماء ويختلف في كثير منهم ولكن العربية قدمتهم ليكونوا فرسانها والمتكلمين ببيانها.. وفي العصر الحديث كان بعث العربية ونفض الغبار عنها سبيلا إلى وحدة الشعب والأمة بل سبيلا قصيرا وسريعا في هذه المهمة المقدسة، وفي هذا الإطار لاحظت ملاحظتين واحدة في المشرق العربي وأخرى المغرب العربي لاحظت في المشرق في مرحلة النهضة الثقافية المعاصرة تميز الأدباء المسيحيين العرب في بلاد الشام والعراق بتبجيلهم للقرآن الكريم وحرصهم على قراءته وحفظ ما يستطيعون منه على اعتبار انه معجزة اللغة العربية المحكمة، ولا يترددون في الحديث بعشق وتعظيم عن معجزته وتحديه الأدبي المستمر، فكانت اللغة العربية وتاجها القران الكريم في نظرهم مادة الوحدة الأساسية للعرب مسلمين ومسيحيين فاللغة هي حاملة القيم والدوافع العميقة لتشكل مجتمع إنساني و يؤكدون بذلك حرصهم على وحدة الأمة فكانوا دعاة وحدة ونهضة في الأمة وحققوا الأخوة الوطنية والقومية بل والإسلامية حضاريا..
فاللغة هنا نقلت المسيحيين العرب إلى مسيحيين دينيا مسلمين حضارة، كما قال السياسي المصري المسيحي الكبير مكرم عبيد أنا مسيحي ديانة مسلم ثقافة وهي الجملة نفسها التي كررها الزعيم السوري (فارس الخوري).. وهو ما قاله بصيغة أكثر توسعا المفكر المسيحي المصري الكبير جورج حبيب بباوي: "الإسلام ليس قضية خاصة بالمسلمين فقط، لأن الواقع الذي نعرفه هو انتشار الإسلام في كل دول العالم المعاصر، ولم تعد الحياة الإنسانية كما كانت منذ 100 سنة، ما يحدث فى ثقافتنا المصرية الإسلامية لا يخص المسلمين وحدهم، لأن هذه الثقافة تسهم فى تكوين العلاقات الإنسانية، وهى ليست مقصورة على فئة دون أخرى، بل هي السدى واللحمة لكل ما هو إنساني."
وفي الجزائر وقف ابن باديس الأمازيغي بكل قوة في خطوته الأولى ليبعث الحياة في العربية في الجزائر ليحقق الشرط الأول في مواجهة الحملة الاستعمارية الإدماجية، و يحقق قاعدة النهضة الحضارية في الجزائر ويهتف مجددا بالمفهوم الحضاري: إن العروبة انتساب للعربية بالمعنى الذي أشار إليه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.. ولذا فقد انصرف بكل قوته في مشروع بعثها من جديد وبذل الجهد كله في الارتقاء بها ليكون من أكثر علماء المسلمين دفاعا عن العربية فمنحته سلطانه الذي لا يفل،. وما كان اندفاعه الى تلك المهمة التي استغرق فيها عمره الا لإدراكه أن العربية مفتاح علوم الإسلام و أداة وحدة الشعب وتمايزه عن الاستعمار وأداة التحرير الرئيسية.. ولقد كانت العربية في الجزائر حقا عامل نهضة وعنصر وحدة وأساس تمايز ودافع ثورة.. ولم يفهم الجزائريون وهم يخوضون تلك المعركة أنها من باب الترف، بل عنصر حياة وقضية نضالية كبيرة ومركزية لارتباطها الوثيق بقيمهم ودينهم.. وانتصروا وحققوا ما لم يتم تحقيقه في سواهم بأنهم حافظوا على العربية بقيمها وروحها، ونشأ فيهم جيلٌ من علماء العربية لم يتجمَّع مثله في بلدٍ من بلاد العرب.. وهكذا ثبت العلماء معه قيمة العربية في توحيد الأمة وبعثها حضاريا.
مشرقا ومغربا نتأكد أن العربية من أهم عوامل الوحدة في وطننا العربي بين المسيحيين والمسلمين وأهم رابط للعرب مع سواهم من المسلمين في العالم لأنها حاملة رسالتهم وفيها ديوانهم الفني الجميل المبدع الذي يحميهم من الاختراق القيمي والمفاهيمي ويمكنهم من التصدي للغزو الفرانكفوني والانجلوفوني وكل أشكال الاستعمار الثقافي.
العربية واللغات:
تعدد الألسنة آية من آيات الله واختلاف الناس في الألوان والأعراق آيات من آيات الله وذلك للتعارف والتعاون الإنساني ولكن العربية تمتاز عن الجميع بإمكاناتها الذاتية المتفردة وبحملها لرسالة الإسلام التي يدين بها أكثر من مليار ونصف مليار مسلم يرون في العربية وعاء القرآن الكريم فتقع العربية في قلوبهم موقع التقديس والتشريف.. وهذا لا يتسنى لأي لغة من اللغات الكبيرة اليوم حيث لا قداسة روحية لأي منها، وهي جميعا دون العربية في قدرة تحملها للمعاني.. ومن هنا فمن غير اللائق وضع العربية في التنافس والسباق مع الفرنسية والانجليزية..
ثنائية التنافس التي يفترضها البعض في محاولة استبدال الفرنسية بالانجليزية تشير إلى ردود فعل متسرعة لا تعبر عن تفكير حضاري بل تفكير غاب عنه الإحساس بأهمية تعزيز العربية وتوسيع استخدامها حفاظا على وحدة الشعب ونهضته وحماية وجدانه من الاختراق.
عندما يتسابق الناس في اللغات المكتسَبة "الفرنسية والانجليزية" فهذا أمرٌ مستحسن، بل هو من باب فريضة الكفاية؛ ولنا في تاريخنا المجيد شاهدٌ بارز؛ إذ لم نقف مشلولي الإرادة أمام لغات البشر بل ذهب أجدادُنا إلى كتبٍ قديمة- بلغات ظن البشر أنها ماتت- فترجموها وجعلوا مكافآتٍ عظيمة لكل من استطاع ترجمة كتاب عن اليونانية والإغريقية، ولم يكن أجدادُنا يغفلون عما تحمل تلك الكتب من ثقافات وفلسفات مخالِفة للفكر الإسلامي،..
مع هذا، فنحن في حاجة إلى ترتيب أولوياتنا فينبغي ألا نخلط بين التأكيد على عناصر وجودنا الحضاري والمكتسبات.. فاللغة هنا ليست كلماتٍ أو نحوا وصرفا فهذه ضوابط اللغة.. إن العربية حاملة قيم وثقافة ومنظومات مفاهيمية صاغت من يتعلمها صياغة خاصة، فأصبحت لسانا لكل من ارتقى إلى معاني الإنسان والحضارة.. وهي في هذا ليست لغة عرق من الناس، إنما لغة حضارة وإنسانية وهي حاملة القرآن الكريم.
إن الخطوة الأولى التي ينبغي أن ينصبَّ عليها الجهد لتحقيقها هي الارتقاء بمناهج تعليم اللغة العربية وتطوير استخدامها في شتى مجالات الحياة التعليم والسياسة والاقتصاد والعلوم وجعلها مادة تنافس وارتقاء وان لا يتم تهاون في ذلك ابدا كما تفعل الدول التي تحافظ على وحدتها الثقافية والحضارية فرنسا مثالا.. ومن يعظم لغة القران سيكون عظيما والله غالب على أمره.